الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن شُبَيل بن عَزْرة الضُّبَعي: {بعد أَمْهٍ} بفتح الألف وإسكان الميم وهاء خالصة؛ وهو مثل الأَمَه، وهما لغتان، ومعناهما النّسيان؛ ويقال: أَمِهَ يأمَهُ أَمَهًا إذا نَسيَ، فعلى هذا {وادكر بَعْدَ أَمَه}؛ ذكره النحاس؛ ورجل أمِهٌ ذاهب العقل.قال الجوهريّ: وأما ما في حديث الزهريّ {أمِه} بمعنى أقرّ واعترف فهي لغة غير مشهورة.وقرأ الأَشهب العُقَيْلي {بَعْدَ إِمَّةٍ} أي بعد نعمة؛ أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة.ثم قيل: نسي الفتى يوسف لقضاء الله تعالى في بقائه في السجن مدة.وقيل: ما نسي، ولكنه خاف أن يذكر الملك الذنب الذي بسببه حبس هو والخبّاز؛ فقوله: {وادكر} أي ذكر وأخبر.قال النحاس: أصل ادكر اذْتَكَر؛ والذال قريبة المخرج من التاء؛ ولم يجز إدغامها فيها لأن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، فلو أدغموا ذهب الجهر، فأبدلوا من موضع التاء حرفًا مجهورًا وهو الدال وكان أولى من الطاء لأن الطاء مطبقة؛ فصار اذدكر، فأدغموا الذال في الدال لرخاوة الدال ولينها؛ ثم قال: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أنا أخبركم.وقرأ الحسن {أَنَا آتِيكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} وقال: كيف ينبئهم العلج؟ا قال النحاس: ومعنى: {أنَبِّئُكُمْ} صحيح حسن؛ أي أنا أخبركم إذا سَأَلتُ.{فَأَرْسِلُونِ} خاطب الملك ولكن بلفظ التعظيم، أو خاطب الملك وأهل مجلسه.{يُوسُفُ} نداء مفرد، وكذا: {الصديق} أي الكثير الصدق.{أَفْتِنَا} أي فأرسلوه، فجاء إلى يوسف فقال: أيها الصديق! وسأله عن رؤيا الملك.{لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي إلى الملك وأصحابه.{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} التعبير، أو {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مكانك من الفضل والعلم فتخرج.ويحتمل أن يريد بالناس الملك وحده تعظيمًا له.{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}فيه مسألتان:الأولى: قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ} لما أعلمه بالرؤيا جعل يفسّرها له، فقال: السبع من البقرات السّمان والسّنبلات الخضر سبع سنين مخصِبات؛ وأما البقرات العِجاف والسّنبلات اليابسات فسبع سنين مجدِبات؛ فذلك قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي متوالية متتابعة؛ وهو مصدر على غير المصدر، لأن معنى: {تَزْرَعُونَ} تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين.وقيل: هو حال؛ أي دائبين.وقيل: صفة لسبع سنين، أي دائبة.وحكى أبو حاتم عن يعقوب {دَأَبًا} بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم، وهما لغتان، وفيه قولان، قول أبي حاتم: إنه من دَئِب.قال النحاس: ولا يعرف أهل اللغة إلا دَأَبَ.والقول الآخر: إنه حُرِّكَ لأن فيه حرفًا من حروف الحلق؛ قاله الفراء، قال: وكذلك كل حرف فتح أوله وسكن ثانيه فتثقيله جائز إذا كان ثانيه همزة، أو هاء، أو عينًا، أو غينًا، أو حاء، أو خاء؛ وأصله العادة؛ قال: وقد مضى في آل عمران القول فيه.{فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} قيل: لئلا يتسوّس، وليكون أبقى؛ وهكذا الأمر في ديار مصر.{إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي استخرجوا ما تحتاجون إليه بقدر الحاجة؛ وهذا القول منه أمر، والأول خبر.ويحتمل أن يكون الأول أيضًا أمرًا، وإن كان الأظهر منه الخبر؛ فيكون معنى: {تَزْرَعُونَ} أي ازرعوا.الثانية: هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال؛ فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يُفوّت شيئًا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة؛ ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية؛ ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده، من غير وجوب عليه، ولا استحقاق؛ هذا مذهب كافة المحقِّقين من أهل السنّة أجمعين؛ وبسطه في أصول الفقه.{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)}فيه مسألتان:الأولى: قوله تعالى: {سَبْعٌ شِدَادٌ} يعني السّنين المجدِبات.{يَأْكُلْنَ} مجاز، والمعنى يأكل أهلهنّ.{مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي ما ادّخرتم لأجلهن؛ ونحوه قول القائل: والنهار لا يَسهو، والليل لا ينام؛ وإنما يُسهى في النهار، ويُنام في الليل.وحكى زيد بن أسلم عن أبيه: أن يوسف كان يضع طعام الاثنين فيقرِّبه إلى رجل واحد فيأكل بعضه، حتى إذا كان يومٌ قَرَّبه له فأكله كلَّه؛ فقال يوسف: هذا أوّل يوم من السّبع الشداد.{إِلاَّ قَلِيلًا} نصب على الاستثناء.{مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي مما تحبسون لتزرعوا؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.وقال أبو عبيدة: تحرزون.وقال قتادة: {تُحْصِنُونَ} تدّخرون، والمعنى واحد؛ وهو يدلّ على جواز احتكار الطعام إلى وقت الحاجة.الثانية: هذه الآية أصل في صحة رؤيا الكافر، وأنها تُخرّج على حسب ما رأى، لاسيما إذا تعلقت بمؤمن، فكيف إذا كانت آية لنبيّ، ومعجزة لرسول، وتصديقًا لمصطفى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله جل جلاله و (بين) عبادِه.قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ}هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله.قال قَتَادة: زاده الله عِلم سَنَة لم يسألوه عنها إظهارًا لفضله، وإعلامًا لمكانه من العلم وبمعرفته.{فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الإغاثة أو الغوث؛ غَوَّثَ الرجل قال واغوثاه، والاسم الغَوْث والغُوَاث والغَوَاث، واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغِياث؛ صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها.والغيث المطر؛ وقد غاث الغيث الأرضَ أي أصابها؛ وغاث الله البلاَد يَغِيثها غَيْثًا، وغِيثَت الأرضُ تُغاث غَيْثًا، فهي أرض مَغِيثَة ومَغْيوثة؛ فمعنى: {يُغَاث النَّاسُ} يُمطَرون.{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قال ابن عباس: يعصرون الأعناب والدُّهن؛ ذكره البخاريّ.وروى حجّاج عن ابن جُرَيج قال: يعصرون العنب خمرًا والسّمسم دُهنًا، والزيتون زيتًا.وقيل: أراد حلب الألبان لكثرتها؛ ويدلّ ذلك على كثرة النبات.وقيل: {يَعْصِرُونَ} أي يَنجُون؛ وهو من العُصْرة، وهي المَنْجَاة.قال أبو عبيدة: والعَصَر بالتحريك المَلْجأ والمَنْجاة، وكذلك العُصْرة؛ قال أبو زُبَيد: والمَنجُودِ الفَزِع.واعتصرتُ بفلان وتَعصرتُ أي التجأت إليه.قال أبو الغوث: {يَعْصِرُونَ} يَسْتَغِلُّون؛ وهو من عصر العنب.واعتصرت ماله أي استخرجته من يده.وقرأ عيسى {تُعْصَرُونَ} بضم التاء وفتح الصاد، ومعناه: تُمطَرون؛ من قول (الله): {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] وكذلك معنى: {تُعصِرون} بضم التاء وكسر الصاد، فيمن قرأه كذلك. اهـ.
|